فصل: فَصْلٌ: مَرَاتِبُ الْجُودِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الْإِيثَارِ:

.[حَقِيقَةُ الْإِيثَارِ]:

وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْإِيثَارِ حَقِيقَتُهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
فَالْإِيثَارُ ضِدَّ الشُّحِّ. فَإِنَّ الْمُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ تَارِكٌ لِمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. وَالشَّحِيحُ: حَرِيصٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِيَدِهِ. فَإِذَا حَصَلَ بِيَدِهِ شَيْءٌ شَحَّ عَلَيْهِ. وَبَخِلَ بِإِخْرَاجِهِ. فَالْبُخْلُ ثَمَرَةُ الشُّحِّ. وَالشُّحُّ يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ. فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا. وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا».
فَالْبَخِيلُ: مَنْ أَجَابَ دَاعِيَ الشُّحِّ. وَالْمُؤْثِرُ: مَنْ أَجَابَ دَاعِيَ الْجُودِ.
كَذَلِكَ السَّخَاءُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ هُوَ السَّخَاءُ. وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَخَاءِ الْبَذْلِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: سَخَاءُ النَّفْسِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ أَفْضَلُ مِنْ سَخَاءِ النَّفْسِ بِالْبَذْلِ.
وَهَذَا الْمَنْزِلُ: هُوَ مَنْزِلُ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَالْإِحْسَانِ.
وَسُمِّيَ بِمَنْزِلِ الْإِيثَارِ لِأَنَّهُ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، فَإِنَّ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثَةٌ.
إِحْدَاهَا: أَنْ لَا يَنْقُصَهُ الْبَذْلُ، وَلَا يَصْعُبَ عَلَيْهِ. فَهُوَ مَنْزِلَةُ السَّخَاءِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْطِيَ الْأَكْثَرَ، وَيُبْقِيَ لَهُ شَيْئًا، أَوْ يُبْقِيَ مِثْلَ مَا أَعْطَى. فَهُوَ الْجُودُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يُؤْثِرَ غَيْرَهُ بِالشَّيْءِ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَرْتَبَةُ الْإِيثَارِ وَعَكْسُهَا الْأَثَرَةُ وَهُوَ اسْتِئْثَارُهُ عَنْ أَخِيهِ بِمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً. فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» وَالْأَنْصَارُ: هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالْإِيثَارِ فِي قَوْلِهِ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فَوَصَفَهُمْ بِأَعْلَى مَرَاتِبِ السَّخَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِيهِمْ مَعْرُوفًا.
وَكَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَجْوَادِ الْمَعْرُوفِينَ. حَتَّى إِنَّهُ مَرِضَ مَرَّةً، فَاسْتَبْطَأَ إِخْوَانَهُ فِي الْعِيَادَةِ. فَسَأَلَ عَنْهُمْ؟ فَقَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ مِمَّا لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّيْنِ. فَقَالَ: أَخْزَى اللَّهُ مَالًا يَمْنَعُ الْإِخْوَانَ مِنَ الزِّيَارَةِ. ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: مَنْ كَانَ لِقَيْسٍ عَلَيْهِ مَالٌ فَهُوَ مِنْهُ فِي حِلٍّ. فَمَا أَمْسَى حَتَّى كُسِرَتْ عَتَبَةُ بَابِهِ، لِكَثْرَةِ مَنْ عَادَهُ.
وَقَالُوا لَهُ يَوْمًا: هَلْ رَأَيْتَ أَسْخَى مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. نَزَلْنَا بِالْبَادِيَةِ عَلَى امْرَأَةٍ. فَحَضَرَ زَوْجُهَا. فَقَالَتْ: إِنَّهُ نَزَلَ بِكَ ضَيْفَانِ. فَجَاءَ بِنَاقَةٍ فَنَحَرَهَا، وَقَالَ: شَأْنُكُمْ؟ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَ بِأُخْرَى فَنَحَرَهَا. فَقُلْنَا: مَا أَكَلْنَا مِنَ الَّتِي نَحَرْتَ الْبَارِحَةَ إِلَّا الْيَسِيرَ. فَقَالَ: إِنِّي لَا أُطْعِمُ ضَيْفَانِي الْبَائِتَ. فَبَقِينَا عِنْدَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَالسَّمَاءُ تُمْطِرُ. وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. فَلَمَّا أَرَدْنَا الرَّحِيلَ وَضَعْنَا مِائَةَ دِينَارٍ فِي بَيْتِهِ، وَقُلْنَا لِلْمَرْأَةِ: اعْتَذِرِي لَنَا إِلَيْهِ. وَمَضَيْنَا. فَلَمَّا طَلَعَ النَّهَارُ إِذَا نَحْنُ بَرَجُلٍ يَصِيحُ خَلْفَنَا: قِفُوا. أَيُّهَا الرَّكْبُ اللِّئَامُ. أَعْطَيْتُمُونِي ثَمَنَ قِرَايَ؟ ثُمَّ إِنَّهُ لَحِقَنَا، وَقَالَ: لَتَأْخُذُنَّهُ أَوْ لَأُطَاعِنَنَّكُمْ بِرُمْحِي. فَأَخَذْنَاهُ وَانْصَرَفَ.
فَتَأَمَّلْ سِرَّ التَّقْدِيرِ، حَيْثُ قَدَّرَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ- سُبْحَانَهُ- اسْتِئْثَارَ النَّاسِ عَلَى الْأَنْصَارِ بِالدُّنْيَا- وَهُمْ أَهْلُ الْإِيثَارِ- لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى إِيثَارِهِمْ إِخْوَانَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى نُفُوسِهِمْ بِالْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ عَلَى النَّاسِ. فَتَظْهَرُ حِينَئِذٍ فَضِيلَةُ إِيثَارِهِمْ وَدَرَجَتُهُ وَيَغْبِطُهُمْ مَنِ اسْتَأْثَرَ عَلَيْهِمْ بِالدُّنْيَا أَعْظَمَ غِبْطَةٍ. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
فَإِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ يَسْتَأْثِرُونَ عَلَيْكَ- مَعَ كَوْنِكَ مِنْ أَهْلِ الْإِيثَارِ- فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِخَيْرٍ يُرَادُ بِكَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: مَرَاتِبُ الْجُودِ:

وَالْجُودُ عَشْرُ مَرَاتِبَ:
إِحْدَاهَا: الْجُودُ بِالنَّفْسِ. وَهُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
يَجُودُ بِالنَّفْسِ، إِذْ ضَنَّ الْبَخِيلُ بِهَا ** وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ

الثَّانِيَةُ: الْجُودُ بِالرِّيَاسَةِ. وَهُوَ ثَانِي مَرَاتِبِ الْجُودِ. فَيَحْمِلُ الْجَوَادَ جُودُهُ عَلَى امْتِهَانِ رِيَاسَتِهِ، وَالْجُودِ بِهَا. وَالْإِيثَارِ فِي قَضَاءِ حَاجَاتِ الْمُلْتَمِسِ.
الثَّالِثَةُ: الْجُودُ بِرَاحَتِهِ وَرَفَاهِيَتِهِ، وَإِجْمَامِ نَفْسِهِ. فَيَجُودُ بِهَا تَعَبًا وَكَدًّا فِي مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ. وَمِنْ هَذَا جُودُ الْإِنْسَانِ بِنَوْمِهِ وَلَذَّتِهِ لِمُسَامِرِهِ، كَمَا قِيلَ:
مُتَيَّمٌ بِالنَّدَى، لَوْ قَالَ سَائِلُهُ: ** هَبْ لِي جَمِيعَ كَرَى عَيْنَيْكَ، لَمْ يَنَمِ

الرَّابِعَةُ: الْجُودُ بِالْعِلْمِ وَبَذْلِهِ. وَهُوَ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْجُودِ. وَالْجُودُ بِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْجُودِ بِالْمَالِ. لِأَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مِنَ الْمَالِ.
وَالنَّاسُ فِي الْجُودِ بِهِ عَلَى مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ. وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ وَتَقْدِيرُهُ النَّافِذُ: أَنْ لَا يَنْفَعَ بِهِ بَخِيلًا أَبَدًا.
وَمِنَ الْجُودِ بِهِ: أَنْ تَبْذُلَهُ لِمَنْ يَسْأَلُكَ عَنْهُ، بَلْ تَطْرَحُهُ عَلَيْهِ طَرْحًا.
وَمِنَ الْجُودِ بِالْعِلْمِ: أَنَّ السَّائِلَ إِذَا سَأَلَكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ: اسْتَقْصَيْتَ لَهُ جَوَابَهَا جَوَابًا شَافِيًا، لَا يَكُونُ جَوَابُكَ لَهُ بِقَدْرِ مَا تُدْفَعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، كَمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَكْتُبُ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا: نَعَمْ، أَوْ: لَا. مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا.
وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- فِي ذَلِكَ أَمْرًا عَجِيبًا:
كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ حُكْمِيَّةٍ، ذَكَرَ فِي جَوَابِهَا مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، إِذَا قَدَرَ، وَمَأْخَذَ الْخِلَافِ، وَتَرْجِيحَ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ. وَذَكَرَ مُتَعَلَّقَاتِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي رُبَّمَا تَكُونُ أَنْفَعَ لِلسَّائِلِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ. فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِتِلْكَ الْمُتَعَلَّقَاتِ، وَاللَّوَازِمِ: أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِهِ بِمَسْأَلَتِهِ. وَهَذِهِ فَتَاوِيهِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بَيْنَ النَّاسِ. فَمَنْ أَحَبَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا رَأَى ذَلِكَ.
فَمِنْ جُودِ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ: أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَسْأَلَةِ السَّائِلِ. بَلْ يَذْكُرُ لَهُ نَظَائِرَهَا وَمُتَعَلِّقَهَا وَمَأْخَذَهَا، بِحَيْثُ يَشْفِيهِ وَيَكْفِيهِ.
وَقَدْ سَأَلَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُتَوَضِّئِ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مِيتَتُهُ» فَأَجَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ. وَجَادَ عَلَيْهِمْ بِمَا لَعَلَّهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ إِلَيْهِ أَحْوَجُ مِمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ.
وَكَانُوا إِذَا سَأَلُوهُ عَنِ الْحُكْمِ نَبَّهَهُمْ عَلَى عِلَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ. كَمَا سَأَلُوهُ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ؟ فَقَالَ: أَيُنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَلَا إِذَنْ وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُقْصَانُ الرُّطَبِ بِجَفَافِهِ، وَلَكِنْ نَبَّهَهُمْ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ. وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي أَجْوِبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرَةً. فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيكَ شَيْئًا. بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ وَفِي لَفْظٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ: بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ فَصَرَّحَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي يَحْرُمُ لِأَجْلِهَا إِلْزَامُهُ بِالثَّمَنِ. وَهِيَ مَنْعُ اللَّهِ الثَّمَرَةَ الَّتِي لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا صُنْعٌ.
وَكَانَ خُصُومُهُ- يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- يَعِيبُونَهُ بِذَلِكَ. وَيَقُولُونَ: سَأَلَهُ السَّائِلُ عَنْ طَرِيقِ مِصْرَ- مَثَلًا- فَيَذْكُرُ لَهُ مَعَهَا طَرِيقَ مَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ، وَخُرَاسَانَ، وَالْعِرَاقِ، وَالْهِنْدِ. وَأَيُّ حَاجَةٍ بِالسَّائِلِ إِلَى ذَلِكَ؟.
وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ: الْجَهْلُ وَالْكِبْرُ. وَهَذَا مَوْضِعُ الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ:
لَقَّبُوهُ بِحَامِضٍ وَهْوَ خَلٌّ ** مِثْلَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْعُنْقُودِ

الْخَامِسَةُ: الْجُودُ بِالنَّفْعِ بِالْجَاهِ. كَالشَّفَاعَةِ وَالْمَشْيِ مَعَ الرَّجُلِ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ وَنَحْوِهِ. وَذَلِكَ زَكَاةُ الْجَاهِ الْمُطَالَبُ بِهَا الْعَبْدُ. كَمَا أَنَّ التَّعْلِيمَ وَبَذْلَ الْعِلْمِ زَكَاتُهُ.
السَّادِسَةُ: الْجُودُ بِنَفْعِ الْبَدَنِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ. كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ: صَدَقَةٌ. وَيُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ، فَيَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ: صَدَقَةٌ. وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ: صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ يُمْشِيهَا الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ: صَدَقَةٌ. وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ: صَدَقَةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
السَّابِعَةُ: الْجُودُ بِالْعِرْضِ، كَجُودِ أَبِي ضَمْضَمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا مَالَ لِي أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى النَّاسِ. وَقَدْ تَصَدَّقْتُ عَلَيْهِمْ بِعِرْضِي، فَمَنْ شَتَمَنِي، أَوْ قَذَفَنِي: فَهُوَ فِي حِلٍّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَسْتَطِيعُ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ؟».
وَفِي هَذَا الْجُودِ مِنْ سَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَرَاحَةِ الْقَلْبِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ مُعَادَاةِ الْخَلْقِ مَا فِيهِ.
الثَّامِنَةُ: الْجُودُ بِالصَّبْرِ، وَالِاحْتِمَالِ، وَالْإِغْضَاءِ. وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ شَرِيفَةٌ مِنْ مَرَاتِبِهِ. وَهِيَ أَنْفَعُ لِصَاحِبِهَا مِنَ الْجُودِ بِالْمَالِ، وَأَعَزُّ لَهُ وَأَنْصَرُ، وَأَمَلَكُ لِنَفْسِهِ، وَأَشْرَفُ لَهَا. وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا النُّفُوسُ الْكِبَارُ.
فَمَنْ صَعُبَ عَلَيْهِ الْجُودُ بِمَالِهِ فَعَلَيْهِ بِهَذَا الْجُودِ. فَإِنَّهُ يَجْتَنِي ثَمَرَةَ عَوَاقِبِهِ الْحَمِيدَةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. وَهَذَا جُودُ الْفُتُوَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} وَفِي هَذَا الْجُودِ قَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} فَذَكَرَ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَقَامَ الْعَدْلِ، وَأَذِنَ فِيهِ. وَمَقَامَ الْفَضْلِ، وَنَدَبَ إِلَيْهِ. وَمَقَامَ الظُّلْمِ، وَحَرَّمَهُ.
التَّاسِعَةُ: الْجُودُ بِالْخُلُقِ وَالْبِشْرِ وَالْبَسْطَةِ. وَهُوَ فَوْقَ الْجُودِ بِالصَّبْرِ، وَالِاحْتِمَالِ وَالْعَفْوِ. وَهُوَ الَّذِي بَلَغَ بِصَاحِبِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ. وَهُوَ أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ» وَفِي هَذَا الْجُودِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَسَارِّ، وَأَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ مَا فِيهِ. وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسَعَهُمْ بِخُلُقِهِ وَاحْتِمَالِهِ.
الْعَاشِرَةُ: الْجُودُ بِتَرْكِهِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ عَلَيْهِمْ. فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ. وَلَا يَسْتَشْرِفُ لَهُ بِقَلْبِهِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِحَالِهِ، وَلَا لِسَانِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَخَاءِ النَّفْسِ بِالْبَذْلِ.
فَلِسَانُ حَالِ الْقَدَرِ يَقُولُ لِلْفَقِيرِ الْجَوَادِ: وَإِنْ لَمْ أُعْطِكَ مَا تَجُودُ بِهِ عَلَى النَّاسِ، فَجُدْ عَلَيْهِمْ بِزُهْدِكَ فِي أَمْوَالِهِمْ. وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ، تُفَضَّلْ عَلَيْهِمْ، وَتُزَاحِمْهُمْ فِي الْجُودِ، وَتَنْفَرِدْ عَنْهُمْ بِالرَّاحَةِ.
وَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْجُودِ مَزِيدٌ وَتَأْثِيرٌ خَاصٌّ فِي الْقَلْبِ وَالْحَالِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ضَمِنَ الْمَزِيدَ لِلْجَوَادِ، وَالْإِتْلَافَ لِلْمُمْسِكِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

.فَصْلٌ: [مَعْنَى الْإِيثَارِ وَالْأَثَرَةِ]:

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْإِيثَارُ: تَخْصِيصٌ وَاخْتِيَارٌ. وَالْأَثَرَةُ: تَحْسُنُ طَوْعًا. وَتَصِحُّ كَرْهًا.
فَرَّقَ الشَّيْخُ بَيْنَ الْإِيثَارِ وَالْأَثَرَةِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَ الْإِيثَارَ اخْتِيَارًا وَالْأَثَرَةَ مُنْقَسِمَةً إِلَى اخْتِيَارِيَّةٍ، وَاضْطِرَارِيَّةٍ. وَبِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا يُعْلَمُ مَعْنَى كَلَامِهِ. فَإِنَّ الْإِيثَارَ هُوَ الْبَذْلُ، وَتَخْصِيصُكَ لِمَنْ تُؤْثِرُهُ عَلَى نَفْسِكَ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا اخْتِيَارًا.
وَأَمَّا الْأَثَرَةُ فَهِيَ اسْتِئْثَارُ صَاحِبِ الشَّيْءِ بِهِ عَلَيْكَ، وَحَوْزُهُ لِنَفْسِهِ دُونَكَ. فَهَذِهِ لَا يُحْمَدُ عَلَيْهَا الْمُسْتَأْثِرُ عَلَيْهِ. إِلَّا إِذَا كَانَتْ طَوْعًا. مِثْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مُنَازَعَتِهِ وَمُجَاذَبَتِهِ، فَلَا يَفْعَلُ. وَيَدَعُهُ وَأَثَرَتَهُ طَوْعًا. فَهَذَا حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ أَثَرَةَ كَرْهٍ.
وَيَعْنِي بِالصِّحَّةِ: الْوُجُودَ، أَيْ تُوجَدُ كَرْهًا. وَلَكِنْ إِنَّمَا تَحْسُنُ إِذَا كَانَتْ طَوْعًا مِنَ الْمُسْتَأْثِرِ عَلَيْهِ.
فَحَقِيقَةُ الْإِيثَارِ بَذْلُ صَاحِبِهِ وَإِعْطَاؤُهُ. وَالْأَثَرَةُ اسْتِبْدَالُهُ هُوَ بِالْمُؤْثَرِ بِهِ. فَيَتْرُكُهُ وَمَا اسْتُبْدِلَ بِهِ: إِمَّا طَوْعًا، وَإِمَّا كَرْهًا. فَكَأَنَّكَ آثَرْتَهُ بِاسْتِئْثَارِهِ حَيْثُ خَلَّيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَلَمْ تُنَازِعْهُ.
قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي عُسْرِنَا، وَيُسْرِنَا، وَمَنْشَطِنَا، وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ. فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ: لَهُمْ مَعَهُ وَمَعَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ، وَالْأَثَرَةُ: عَدَمُ مُنَازَعَةِ الْأَمْرِ مَعَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَأْثِرْ عَلَيْهِمْ.

.فَصْلٌ: [دَرَجَاتُ الْإِيثَارِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ تُؤْثِرَ الْخَلْقَ دَرَجَاتُ الْإِيثَارِ عَلَى نَفْسِكَ]:

قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تُؤْثِرَ الْخَلْقَ عَلَى نَفْسِكَ فِيمَا لَا يَخْرِمُ عَلَيْكَ دِينًا. وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقًا، وَلَا يُفْسِدُ عَلَيْكَ وَقْتًا.
يَعْنِي: أَنْ تُقَدِّمَهُمْ عَلَى نَفْسِكَ فِي مَصَالِحِهِمْ. مِثْلَ أَنْ تُطْعِمَهُمْ وَتَجُوعَ. وَتَكْسُوَهُمْ وَتَعْرَى، وَتَسْقِيَهُمْ وَتَظْمَأَ، بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى ارْتِكَابِ إِتْلَافٍ لَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ. وَمِثْلَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِمَالِكَ وَتَقْعُدَ كَلًّا مُضْطَرًّا، مُسْتَشْرِفًا لِلنَّاسِ أَوْ سَائِلًا. وَكَذَلِكَ إِيثَارُهُمْ بِكُلِّ مَا يُحَرِّمُهُ عَلَى الْمُؤْثِرِ دِينُهُ. فَإِنَّهُ سَفَهٌ وَعَجْزٌ. يُذَمُّ الْمُؤْثِرُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقًا أَيْ لَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقَ الطَّلَبِ وَالْمَسِيرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِثْلَ أَنْ تُؤْثِرَ جَلِيسَكَ عَلَى ذِكْرِكَ، وَتَوَجُّهِكَ وَجَمْعِيَّتِكَ عَلَى اللَّهِ. فَتَكُونَ قَدْ آثَرْتَهُ عَلَى اللَّهِ. وَآثَرْتَ بِنَصِيبِكَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْإِيثَارَ. فَيَكُونَ مَثَلُكَ كَمَثَلِ مُسَافِرٍ سَائِرٍ عَلَى الطَّرِيقِ لَقِيَهُ رَجُلٌ فَاسْتَوْقَفَهُ، وَأَخَذَ يُحَدِّثُهُ وَيُلْهِيهِ حَتَّى فَاتَهُ الرِّفَاقُ. وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ مَعَ الصَّادِقِ السَّائِرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَإِيثَارُهُمْ عَلَيْهِ عَيْنُ الْغُبْنِ. وَمَا أَكْثَرَ الْمُؤْثِرِينَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ. وَمَا أَقَلَّ الْمُؤْثِرِينَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ الْإِيثَارُ بِمَا يُفْسِدُ عَلَى الْمُؤْثِرِ وَقْتَهُ قَبِيحٌ أَيْضًا. مِثْلَ أَنْ يُؤْثِرَ بِوَقْتِهِ وَيُفَرِّقَ قَلْبَهُ فِي طَلَبِ خَلَفِهِ، أَوْ يُؤْثِرَ بِأَمْرٍ قَدْ جَمَعَ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ عَلَى اللَّهِ. فَيُفَرِّقَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ جَمْعِيَّتِهِ. وَيُشَتِّتَ خَاطِرَهُ. فَهَذَا أَيْضًا إِيثَارٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ.
وَكَذَلِكَ الْإِيثَارُ بِاشْتِغَالِ الْقَلْبِ وَالْفِكْرِ فِي مُهِمَّاتِهِمْ وَمَصَالِحِهِمُ الَّتِي لَا تَتَعَيَّنُ عَلَيْكَ. عَلَى الْفِكْرِ النَّافِعِ، وَاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِاللَّهِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ لَا تَخْفَى. بَلْ ذَلِكَ حَالُ الْخَلْقِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ.
وَكُلُّ سَبَبٍ يَعُودُ عَلَيْكَ بِصَلَاحِ قَلْبِكَ وَوَقْتِكَ وَحَالِكَ مَعَ اللَّهِ: فَلَا تُؤْثِرْ بِهِ أَحَدًا. فَإِنْ آثَرْتَ بِهِ فَإِنَّمَا تُؤْثِرُ الشَّيْطَانَ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ.
وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ فِي إِيثَارِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَضُرُّهُمْ إِيثَارُهُمْ لَهُ وَلَا يَنْفَعُهُمْ. وَأَيُّ جَهَالَةٍ وَسَفَهٍ فَوْقَ هَذَا؟
وَمِنْ هَذَا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِيثَارِ بِالْقُرْبِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ. كَمَنْ يُؤْثِرُ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ غَيْرَهُ وَيَتَأَخَّرُ هُوَ، أَوْ يُؤْثِرُهُ بِقُرْبِهِ مِنَ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يُؤْثِرُ غَيْرَهُ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، أَوْ يُؤْثِرُهُ بِعِلْمٍ يَحْرِمُهُ نَفْسَهُ، وَيَرْفَعُهُ عَلَيْهِ، فَيَفُوزُ بِهِ دُونَهُ.
وَتَكَلَّمُوا فِي إِيثَارِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَفْنِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَتِهَا.
وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ بِمَوْتِهِ وَبِقُرْبِهِ. فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ الْإِيثَارُ بِالْقُرْبِ بَعْدَ الْمَوْتِ. إِذْ لَا تَقَرُّبَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ. وَإِنَّمَا هَذَا إِيثَارٌ بِمَسْكَنٍ شَرِيفٍ فَاضِلٍ لِمَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهَا. فَالْإِيثَارُ بِهِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْثِرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [ما يُسْتَطَاعُ بِهِ الْإِيثَارُ]:

قَالَ وَلَا يُسْتَطَاعُ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِتَعْظِيمِ الْحُقُوقِ، وَمَقْتِ الشُّحِّ، وَالرَّغْبَةِ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
ذِكْرُ مَا يُعِينُ عَلَى الْإِيثَارِ فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ.
تَعْظِيمُ الْحُقُوقِ. فَإِنَّ مَنْ عَظُمَتِ الْحُقُوقُ عِنْدَهُ قَامَ بِوَاجِبِهَا. وَرَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا. وَاسْتَعْظَمَ إِضَاعَتَهَا. وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْإِيثَارِ لَمْ يُؤَدِّهَا كَمَا يَنْبَغِي. فَيَجْعَلَ إِيثَارَهُ احْتِيَاطًا لِأَدَائِهَا.
الثَّانِي: مَقْتُ الشُّحِّ. فَإِنَّهُ إِذَا مَقَتَهُ وَأَبْغَضَهُ الْتَزَمَ الْإِيثَارَ. فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُ مِنْ هَذَا الْمَقْتِ الْبَغِيضِ إِلَّا بِالْإِيثَارِ.
الثَّالِثُ: الرَّغْبَةُ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَبِحَسَبِ رَغْبَتِهِ فِيهَا: يَكُونُ إِيثَارُهُ. لِأَنَّ الْإِيثَارَ أَفْضَلُ دَرَجَاتِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ إِيثَارُ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ]:

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِيثَارُ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ. وَإِنْ عَظُمَتْ فِيهِ الْمِحَنُ. وَثَقُلَتْ فِيهِ الْمُؤَنُ، وَضَعُفَ عَنْهُ الطَّوْلُ وَالْبَدَنُ.
إِيثَارُ رِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى غَيْرِهِ: هُوَ أَنْ يُرِيدَ وَيَفْعَلَ مَا فِيهِ مَرْضَاتُهُ، وَلَوْ أَغْضَبَ الْخَلْقَ. وَهِيَ دَرَجَةُ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَعْلَاهَا لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ. وَأَعْلَاهَا لِأُولِي الْعَزْمِ مِنْهُمْ. وَأَعْلَاهَا لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ. فَإِنَّهُ قَاوَمَ الْعَالَمَ كُلَّهُ. وَتَجَرَّدَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ. وَاحْتَمَلَ عَدَاوَةَ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ فِي اللَّهِ تَعَالَى. وَآثَرَ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا الْخَلْقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَلَمْ يَأْخُذْهُ فِي إِيثَارِ رِضَاهُ لَوْمَةُ لَائِمٍ. بَلْ كَانَ هَمُّهُ وَعَزْمُهُ وَسَعْيُهُ كُلُّهُ مَقْصُورًا عَلَى إِيثَارِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَتَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَاتِهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ. حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ دِينٍ. وَقَامَتْ حُجَّتُهُ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَتَمَّتْ نِعْمَتُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ. وَأَدَّى الْأَمَانَةَ. وَنَصَحَ الْأُمَّةَ. وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ. وَعَبَدَ اللَّهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ. فَلَمْ يَنَلْ أَحَدٌ مِنْ دَرَجَةِ هَذَا الْإِيثَارِ مَا نَالَ. صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ عَظُمَتْ فِيهِ الْمِحَنُ. وَثَقُلَتْ فِيهِ الْمُؤَنُ.
فَإِنَّ الْمِحْنَةَ تَعْظُمُ فِيهِ أَوْلًا، لِيَتَأَخَّرَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. فَإِذَا احْتَمَلَهَا وَتَقَدَّمَ انْقَلَبَتْ تِلْكَ الْمِحَنُ مِنَحًا. وَصَارَتْ تِلْكَ الْمُؤَنُ عَوْنًا. وَهَذَا مَعْرُوفٌ بِالتَّجْرِبَةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. فَإِنَّهُ مَا آثَرَ عَبْدٌ مَرْضَاةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَرْضَاةِ الْخَلْقِ، وَتَحَمَّلَ ثِقَلَ ذَلِكَ وَمُؤْنَتَهُ، وَصَبَرَ عَلَى مِحْنَتِهِ: إِلَّا أَنْشَأَ اللَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمِحْنَةِ وَالْمُؤْنَةِ نِعْمَةً وَمَسَرَّةً، وَمَعُونَةٍ بِقَدْرِ مَا تَحَمَّلَ مِنْ مَرْضَاتِهِ. فَانْقَلَبَتْ مَخَاوِفُهُ أَمَانًا، وَمَظَانُّ عَطَبِهِ نَجَاةً، وَتَعَبُهُ رَاحَةً، وَمُؤْنَتُهُ مَعُونَةً، وَبَلِيَّتُهُ نِعْمَةً، وَمِحْنَتُهُ مِنْحَةً، وَسُخْطُهُ رِضًا. فَيَا خَيْبَةَ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَيَا ذِلَّةَ الْمُتَهَيِّبِينَ.
هَذَا، وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ- الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا- أَنَّ مَنْ آثَرَ مَرْضَاةَ الْخَلْقِ عَلَى مَرْضَاتِهِ: أَنْ يُسْخِطَ عَلَيْهِ مَنْ آثَرَ رِضَاهُ، وَيَخْذُلَهُ مِنْ جِهَتِهِ. وَيَجْعَلَ مِحْنَتَهُ عَلَى يَدَيْهِ. فَيَعُودَ حَامِدُهُ ذَامًّا. وَمَنْ آثَرَ مَرْضَاتَهُ سَاخِطًا. فَلَا عَلَى مَقْصُودِهِ مِنْهُمْ حَصَلَ، وَلَا إِلَى ثَوَابِ مَرْضَاةِ رَبِّهِ وَصَلَ. وَهَذَا أَعْجَزُ الْخَلْقِ وَأَحْمَقُهُمْ.
هَذَا مَعَ أَنَّ رِضَا الْخَلْقِ: لَا مَقْدُورٌ، وَلَا مَأْمُورٌ، وَلَا مَأْثُورٌ. فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ. بَلْ لَا بُدَّ مِنْ سُخْطِهِمْ عَلَيْكَ. فَلَأَنْ يَسْخَطُوا عَلَيْكَ وَتَفُوزَ بِرِضَا اللَّهِ عَنْكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ وَأَنْفَعُ لَكَ مِنْ أَنْ يَسْخَوْا عَلَيْكَ وَاللَّهُ عَنْكَ غَيْرُ رَاضٍ. فَإِذَا كَانَ سُخْطُهُمْ لَا بُدَّ مِنْهُ- عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ- فَآثِرْ سُخْطَهُمُ الَّذِي يُنَالُ بِهِ رِضَا اللَّهِ. فَإِنْ هُمْ رَضُوا عَنْكَ بَعْدَ هَذَا، وَإِلَّا فَأَهْوَنُ شَيْءٍ رِضَا مَنْ لَا يَنْفَعُكَ رِضَاهُ، وَلَا يَضُرُّكَ سُخْطُهُ فِي دِينِكَ، وَلَا فِي إِيمَانِكَ، وَلَا فِي آخِرَتِكَ. فَإِنْ ضَرَّكَ فِي أَمْرٍ يَسِيرٍ فِي الدُّنْيَا فَمَضَرَّةُ سُخْطِ اللَّهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ. وَخَاصَّةً الْعَقْلُ: احْتِمَالُ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا. وَتَفْوِيتُ أَدْنَى الْمَصْلَحَتَيْنِ لِتَحْصِيلِ أَعْلَاهُمَا. فَوَازِنْ بِعَقْلِكَ. ثُمَّ انْظُرْ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ خَيْرٌ فَآثِرْهُ، وَأَيَّهُمَا شَرٌّ فَابْعُدْ عَنْهُ. فَهَذَا بُرْهَانٌ قَطْعِيٌّ ضَرُورِيٌّ فِي إِيثَارِ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا الْخَلْقِ.
هَذَا مَعَ أَنَّهُ إِذَا آثَرَ رِضَا اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ غَضَبِ الْخَلْقِ. وَإِذَا آثَرَ رِضَاهُمْ لَمْ يَكْفُوهُ مُؤْنَةَ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَمُصَانَعَةُ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مِنْ مُصَانَعَةِ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. إِنَّكَ إِذَا صَانَعْتَ ذَلِكَ الْوَجْهَ الْوَاحِدَ كَفَاكَ الْوُجُوهَ كُلَّهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رِضَا النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ. فَعَلَيْكَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِكَ فَالْزَمْهُ.
وَمَعْلُومٌ: أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلنَّفْسِ إِلَّا بِإِيثَارِ رِضَا رَبِّهَا وَمَوْلَاهَا عَلَى غَيْرِهِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو فِرَاسٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى- إِلَّا أَنَّهُ أَسَاءَ كُلَّ الْإِسَاءَةِ فِي قَوْلِهِ، إِذْ يَقُولُهُ لِمَخْلُوقٍ لَا يَمْلِكُ لَهُ وَلَا لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا:
فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ ** وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ

وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ** وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ

إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ فَالْكُلُّ هَيِّنٌ ** وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ

ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مَا يُسْتَطَاعُ بِهِ هَذَا الْإِيثَارُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ. فَقَالَ:
وَيُسْتَطَاعُ هَذَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مَا يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى إِيثَارِ رِضَا اللَّهِ: بِطِيبِ الْعَوْدِ. وَحُسْنِ الْإِسْلَامِ. وَقُوَّةِ الصَّبْرِ.
مِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْمُؤْثِرَ لِرِضَا اللَّهِ مُتَصَدٍّ لِمُعَادَاةِ الْخَلْقِ وَأَذَاهُمْ، وَسَعْيِهِمْ فِي إِتْلَافِهِ وَلَا بُدَّ. هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ. وَإِلَّا فَمَا ذَنْبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، وَالْقَائِمِينَ بِدِينِ اللَّهِ، الذَّابِّينَ عَنْ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عِنْدَهُمْ؟
فَمَنْ آثَرَ رِضَا اللَّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَادِيَهُ رَذَالَةُ الْعَالَمِ وَسَقْطُهُمْ، وَغَرْثَاهُمْ وَجُهَّالُهُمْ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ مِنْهُمْ، وَأَهْلُ الرِّيَاسَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَكُلُّ مَنْ يُخَالِفُ هَدْيُهُ هَدْيَهُ. فَمَا يَقْدَمُ عَلَى مُعَادَاةِ هَؤُلَاءِ إِلَّا طَالِبُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، عَامِلٌ عَلَى سَمَاعِ خِطَابِ {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} وَمِنْ إِسْلَامِهِ صُلْبٌ كَامِلٌ لَا تُزَعْزِعُهُ الرِّجَالُ. وَلَا تُقَلْقِلُهُ الْجِبَالُ، وَمِنْ عَقْدَ عَزِيمَةِ صَبْرِهِ مُحْكَمٌ لَا تَحُلُّهُ الْمِحَنُ وَالشَّدَائِدُ وَالْمَخَاوِفُ.
قُلْتُ: وَمِلَاكُ ذَلِكَ أَمْرَانِ: الزُّهْدُ فِي الْحَيَاةِ وَالثَّنَاءُ. فَمَا ضَعُفَ مَنْ ضَعُفَ، وَتَأَخَّرَ مَنْ تَأَخَّرَ إِلَّا بِحُبِّهِ لِلْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ، وَثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَنُفْرَتِهِ مِنْ ذَمِّهِمْ لَهُ. فَإِذَا زَهِدَ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، تَأَخَّرَتْ عَنْهُ الْعَوَارِضُ كُلُّهَا. وَانْغَمَسَ حِينَئِذٍ فِي الْعَسَاكِرِ.
وَمِلَاكُ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ بِشَيْئَيْنِ: صِحَّةِ الْيَقِينِ. وَقُوَّةِ الْمَحَبَّةِ.
وَمِلَاكُ هَذَيْنِ بِشَيْئَيْنِ أَيْضًا: بِصِدْقِ اللَّجَأِ وَالطَّلَبِ، وَالتَّصَدِّي لِلْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهِمَا.
فَإِلَى هَاهُنَا تَنْتَهِي مَعْرِفَةُ الْخَلْقِ وَقُدْرَتُهُمْ. وَالتَّوْفِيقُ بَعْدُ بَيْدِ مَنْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدِهِ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.